فصل: ذكر وفاة عضد الدولة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنج

في هذه السنة في ذي القعدة سار الأمير أبو القاسم أمير صقلية من المدينة يريد الجهاد‏.‏

وسبب ذلك أن ملكًا من ملوك الفرنج يقال له بردويل خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية فحصر قلعة ملطة وملكها وأصاب سريتين للمسلمين فسار الأمير أبو القاسم بعساكره ليرحله عن القلعة فلما قاربها خاف وجبن فجمع وجوه أصحابه وقال لهم‏:‏ إني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا علي رأيي‏.‏ فرجع هو وعساكره‏.‏

وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل ملك الروم يعلمونه ويقولون له‏:‏ إن المسلمين خائفون منك فالحق بهم فإنك تظفر‏.‏

فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم وسار جريدة وجد في السير فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين فتعبأ المسلمون للقتال واقتتلوا واشتدت الحرب بينهم فحملت طائفة من الفرنج على القلب والأعلام فشقوا العسكر ووصلوا إليها وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم واختل نظامهم فوصل الفرنج إليه فأصابته ضربة على أم رأسه فقتل وقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم‏.‏

ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا واشتد حينئذ الأمر وعظم الخطب على الطائفتين فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل وأسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى أن أدركهم الليل وغنموا من أموالهم كثيرًا‏.‏

وأفلت ملك الفرنج هاربًا ومعه رجل يهوديٌ كان خصيصًا به فوقف فرس الملك فقال له إليهودي‏:‏ اركب فرسي فإن قتلت فأنت لولدي فركبه الملك وقتل إليهودي فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فأخذهم وعاد إلى رومية‏.‏

ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر فقام مقام أبيه ورحل بالمسلمين لوقتهم ولم يمكنهم من إتمام الغنيمة فتركوا كثيرًا منها وسأله أصحابه ليقيم إلى أن يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن فلم يفعل‏.‏

وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان عادلًا حسن السيرة كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم عظيم الصدقة ولم يخلف دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا فإنه كان قد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس وبقي الحريق أسبوعًا‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها وكان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه قاتله الله‏!‏ وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب وكان القبض عليه سنة سبع وستين‏.‏

وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتبًا في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة فكان ينصح صاحبه فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه فتزحزح له عن سنن المساواة فنقم عليه عضد الدولة ذلك وهذا من أعجب الأشياء فإنه كان ينبغي أن يعظم في عينه لنصحه لصاحبه فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها فعمل التاجي في دولة الديلم‏.‏

وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه فلم يفعل فقيل‏:‏ لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض فأصر على الامتناع فعمل الملك بابًا صغيرًا يدخل منه القاضي منحنيًا ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه فلما جازه استقبل الملك وهو قائم فعظم عندهم محله‏.‏

وفيها فتح المارستان العضدي غربي بغداد ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية‏.‏

و في هذه السنة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الاسماعيلي الجرجاني الفقيه الشافعي وكان عالمًا بالحديث وغيره من العلوم والإمام محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد يروي صحيح البخاري عن الفربري وتوفي في رجب وأبو

عبدالله محمد بن خفيف الشرازي شيخ الصوفية في وقته صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة

  ذكر ولاية بكجور دمشق

قد ذكرنا سنة ست وستين ولاية بكجور حمص لأبي المعالي ابن سيف الدولة بن حمدان فلما وليها عمرها وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها وانتقل أهله إلى أعمال حمص فعمرت وكثر أهلها والغلات فيها ووقع الغلاء والقحط بدمشق فحمل بكجور الأقوات من حمص إليها وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها‏.‏

وكاتب العزيز بالله بمصر وتقرب إليه فوعده ولاية دمشق فبقي كذلك إلى هذه السنة‏.‏

ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور فأرسل سعد الدولة يأمره بأن يفارق بلده فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق‏.‏

وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية‏.‏

وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام كما ذكرناه فهو مقيم بها‏.‏

فاجتمع المغاربة بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله فدعته الضرورة إلى أن يستحضر يلتكين من دمشق فأمره العزيز بإحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور‏.‏

فقال‏:‏ إن بكجور إن وليها عصى فيها‏.‏

فلم يصغ إلى قوله وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر وتسليم دمشق إلى بكجور ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة واليًا عليها فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به حتى إنه صلب بعضهم وفعل مثل ذلك في أهل البلد وظلم الناس وكان لا يخلوا من أخذ مالٍ وقتلٍ وصلبٍ وعقوبة فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وسنذكر هناك عزله إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر وفاة عضد الدولة

في هذه السنة في شوال اشتدت علة عضد الدولة وهو ما كان يعتاده من الصرع فضعفت قوته عن دفعه فخنقه فمات منه ثامن شوال ببغداد وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن به‏.‏

وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفًا‏.‏

ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزيًا وكان عمر عضد الدولة سبعًا وأربعين سنة‏.‏

وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكًا لها قبل أن يشتد مرضه وقيل إنه لما احتضر لم نطلق لسانه إلا بتلاوة ‏{‏مَا أَغْنْى عَنِّي مَاليه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وكان عاقلًا فاضلًا حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محبًا للفضائل وأهلها باذلًا في مواضع العطاء مانعًا في أماكن الحزن ناظرًا في عواقب الأمور‏.‏

قيل‏:‏ لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء وعنده جماعة من أعيان الفضلاء فتذاكروا الكلمات التي قالها الحماء عند موت الإسكندر وقد ذكرتها في أخباره فقال بعضهم‏:‏ لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم‏.‏

فقال أحدهم‏:‏ لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها‏.‏

وقال الثاني‏:‏ من استيقظ للدنيا فهذا نومه ومن حلم فيها فهذا انتباهه‏.‏

وقال الثالث‏:‏ ما رأيت عاقلًا في عقله ولا غافلًا في غفلته مثله لقد كان ينقض جانبًا وهو يظن أنه مبرم ويغرم وهو يظن أنه غانم‏.‏

وقال الرابع‏:‏ من جد للدنيا هزلت به ومن هزل راغبًا عنها جدت له‏.‏

وقال الخامس‏:‏ ترك هذا الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة‏.‏

وقال السابع‏:‏ إنما سلبك من قدر عليك‏.‏

وقال الثامن‏:‏ أما إنه لو كان معتبرًا في حياته لما صار عبرةً في مماته‏.‏

وقال التاسع‏:‏ الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال والنازل في درجاتها إلى تعال‏.‏

وقال العاشر‏:‏ كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك وهلا اتخذت دونه جنةً تقيك إن في ذلك لعبرة للمعتبرين وإنك لآية للمستبصرين‏.‏

وبنى على مدينة النبي صلى الله علية وسلم سورًا‏.‏

وله شعر حسن فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار ويطلب الأمان فقال عضد الدولة‏:‏ أأفاق حين وطئت ضيق خناقه يبغي الأمان وكان يبغي صارما فلأركبنّ عزيمةً عضديّةً تاجيّة تدع الأنوف رواغما وقال أبياتًا منها بيت لم يفلح بعده وهي هذه‏:‏ ليس شرب الكأس إلاّ في المطر وغناءٍ من جوارٍ في السّحر غانياتٍ سالباتٍ للنّهى ناغماتٍ في تضاعيف الوتر مبرزات الكاس من مطلعها ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ملك الأملاك غلاّب القدر

وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام‏.‏

قال أبو نصر‏:‏ فأنسيت ذلك أربعة أيام فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت‏:‏ أنسيته فأغلظ لي فقلت‏:‏ أمس استهل الشهر والساعة نحمل المال وما ها هنا ما يوجب شغل القلب‏.‏

فقال‏:‏ المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم فإذا أخرنا ذلك عنهم حتى استهل الشهر الآخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثم يحضرونه في اليوم الثالث ويبسطون ألسنتهم فتضيع المنة وتحصل الجرأة ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح‏.‏

وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة ولا يجعل للشفاعات طريقًا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ولا فيما يتعلق به‏.‏

حكي عنه أنه مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله فقال‏:‏ ليس هذا من أشغالك إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئًا كثيرًا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه‏.‏

وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا‏.‏

وكان محبًا للعلوم وأهلها مقربًا لهم محسنًا إليهم وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب منها الإيضاح في النحو والحجة في القراءات والملكي في الطب والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر غير ذلك من المصالح العامة إلا أنه أحدث في آخر أيام رسومًا جائرة في المساحة والضرائب على بيع الدواب وغيرها من الأمتعة وزاد على ما تقدم ومنع من عمل الثلج والقز وجعلهما متجرًا للخاص وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق‏.‏

ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد فأخذ من كمه رقعة فيها‏:‏ أيا واثقًا بالدهر عند انصرافه‏!‏ رويدك إنّي بالزمان أخو خبر ويا شامتًا مهلًا فكم ذي شماتةٍ تكون له العقبى بقاصمة الظّهر

  ذكر ولاية صمصام الدولة العراق وملك أخيه شرف الدولة بلاد فارس

لما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده أبي كاليجار المرزبان فبايعوه وولوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة فلما ولي خلع على أخويه أبي الحسين أحمد وأبي طاهر فيروزشاه وأقطعهما فارس وأمرهما بالجد في السير ليسبقا أخاهما شرف الدولة أبا الفوارس شيرزيل إلى شيراز‏.‏

فلما وصلا إلى أرجان أتاهما خبر وصول شرف الدولة إلى شيراز فعادا إلى الأهواز‏.‏

وكان شرف الدولة بكرمان فلما بلغه خبر وفاة أبيه سار مجدًا إلى فارس فملكها وقبض على نصر بن هارون النصراني وزير أبيه وقتله لأنه كان يسيء صحبته أيام أبيه وأصلح أمر البلاد وأطلق الشريف أبا الحسين محمد بن عمر العلوي والنقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشاذه وكان عضد الدولة حبسهم وأظهر مشاقة أخيه صمصام الدولة وقطع خطبته وخطب لنفسه وتلقب بتاج الدولة وفرق الأموال وجمع الرجال وملك البصرة وأقطعها أخاه أبا الحسين فبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قبض عليه شرف الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

فلما سمع صمصام الدولة بما فعله شرف الدولة سير إليه جيشًا واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن بن دبعش حاجب عضد الدولة فجهز تاج الدولة عسكرًا واستعمل عليهم الأمير أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدي فالتقيا بظاهر قرقوب واقتتلوا فانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر دبعش فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز وأخذ ما فيها وفي رامهرمز وطمع في الملك وكانت الوقعة في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة‏.‏

  ذكر قتل الحسين بن عمران بن شاهين

في هذه السنة قتل الحسين بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة قتله أخوه أبو الفرج واستولى على البطيحة‏.‏

وكان سبب قتله أنه حسده على ولايته ومحبة الناس له فاتفق أن أختًا لهما مرضت فقال أبو الفرج لأخيه الحسين‏:‏ إن أختنا مشفية فلو عدتها ففعل وسار إليها ورتب أبو الفرج في الدار نفرًا يساعدونه على قتله فلما دخل الحسين الدار تخلف عنه أصحابه ودخل أبو الفرج معه وبيده سيفه فلما خلا به قتله ووقعت الصيحة فصعد إلى السطح وأعلم العسكر بقتله ووعدهم الإحسان فسكتوا وبذل لهم المال فأقروه في الأمر وكتب إلى بغداد يظهر الطاعة ويطلب تقليده الولاية وكان متهورًا جاهلًا‏.‏

  ذكر عود ابن سيمجور إلى خراسان

لما عزل أبو الحسن بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان ووليها أبو العباس سار ابن سيمجور إلى سجستان فأقام بها فلما انهزم أبو العباس عن جرجان على ما ذكرناه ورأى الفتنة قد رفعت رأسها سار عن سجستان نحو خراسان وأقام بقهستان‏.‏

فلما سار أبو العباس إلى بخارى وخلت منه خراسان كاتب ابن سيمجور فائقًا يطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان فأجابه إلى ذلك واجتمعا بنيسابور واستوليا على تلك النواحي‏.‏

وبلغ الخبر إلى أبي العباس فسار عن بخارى في جمع كثير إلى مرو وترددت الرسل بينهم فاصطلحوا على أن تكون نيسابور وقيادة لأبي العباس وتكون بلخ لفائق وتكون هراة لأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وتفرقوا على ذلك وقصد كل واحد منهم ولايته‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي نقيب النقباء أبو تمام الزينبي وولي النقابة بعد ابنه أبو الحسن وتوفي محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة في صفر ببغداد وتوفي في جمادى الأولى منصور بن أحمد بن هارون الزاهد وهو ابن خمس وستين سنة‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

وعود فخر الدولة إلى مملكته في هذه السنة في شعبان توفي مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدولة بجرجان وكانت علته الخوانيق وقال له الصاحب بن عباد‏:‏ لو عهدت إلى أحد فقال‏:‏ أنا في شغل عن هذا ولم يعهد بالملك إلى أحد وكان عمره ثلاثًا وأربعين سنة‏.‏

وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد فأتاه الطائع لله معزيًا فلقيه في طيارة‏.‏

لما مات مؤيد الدولة تشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه فأشار الصاحب إسماعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى مملكته إذ هو كبير البيت ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة ولما فيه من آيات الإمارة والملك‏.‏

فكتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور وأرسل الصاحب إليه من استخلفه لنفسه وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة‏.‏

فلما وصلت الأخبار إلى فخر الدولة سار إلى جرجان فلقيه العسكر بالطاعة وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منةٍ لأحدٍ فسبحان من إذا أراد أمرًا كان‏.‏

ولما عاد إلى مملكته قال له الصاحب‏:‏ يا مولانا قد بلغك الله وبلغني فيك ما أملته ومن حقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجندية وملازمة داري والتوفر على أمر الله‏.‏

فقال‏:‏ لا تقل هذا فما أريد الملك إلا لك ولا يستقيم لي أمر إلا بك وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهتها أنا أيضًا وانصرفت‏.‏

فقبل الأرض وقال الأمر لك فاستوزره وأكرمه وعظمه وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها‏.‏

وسيرت الخلع من الخليفة إلى فخر الدولة والعهد واتفق فخر الدولة وصمصام الدولة فصار يدًا واحدةً‏.‏

  ذكر عزل أبي العباس عن خراسان وولاية ابن سيمجور

لما عاد أبو العباس عن بخارى إلى نيسابور كما ذكرناه استوزر الأمير نوح عبدالله بن عزيز وكان ضدًا لأبي الحسين العتبي وأبي العباس فلما ولي الوزارة بدأ بعزل أبي العباس عن خراسان وإعادة أبي الحسن بن سيمجور إليها فكتب من بخراسان من القواد إليه يسألونه أن يقر أبا العباس على عمله فلم يجبهم إلى ذلك فكتب أبو العباس إلى فخر الدولة بن بويه يستمده فأمده بمال كثير وعسكر فأقاموا بنيسابور وأتاهم أبو محمد عبدالله بن عبد الرزاق وكان أبو العباس حينئذ بمرو فلما سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم فانحاز عسكر فخر الدولة عبد الرزاق وأقاموا ينتظرون أبا العباس ونزل ابن سيمجور ومن معه بظاهر نيسابور ووصل أبو العباس فيمن معه واجتمع بعسكر الديلم ونزل بالجانب الآخر وجرى بينهم حروب عدة أيام وتحصن ابن سيمجور بالبلد وأنفذ فخر الدولة إلى أبي العباس عسكرًا آخر أكثر من ألفي فارس فلما رأى ابن سيمجور قوة أبي العباس انحاز عن نيسابور فسار عنها ليلًا وتبعه عسكر أبي العباس فغنموا كثيرًا من أموالهم ودوابهم واستولى أبو العباس على نيسابور وراسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه ولج ابن عزيز في عزله ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح وكانت تحكم في دولة ولدها وكانوا يصدرون عن رأيها فقال بعض أهل العصر في ذلك‏:‏ شيئان يعجز ذو الرّياضة عنهما‏:‏ رأي النّساء وإمرة الصّبيان أمّا النساء فميلهنّ إلى الهوى وأخو الصّبا يجري بغير عنان

  ذكر انهزام أبي العباس إلى جرجان ووفاته

لما انهزم ابن سيمجور أقام أبو العباس بنيسابور يستعطف الأمير نوحًا ووزيره ابن عزيز وترك اتباع ابن سيمجور وإخراجه من خراسان فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون وعادت قوته وأتته الأمداد من بخارى وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة وهو بفارس يستمده فأمده بألفي فارس مراغمةً لعمه فخر الدولة فلما كثف جمعه قصد أبا العباس فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا إلى آخر النهار فانهزم أبو العباس وأصحابه وأسر منهم جماعة كثيرة‏.‏

وقصد أبو العباس جرجان وبها فخر الدولة فأكرمه وعظمه وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ صافية له ولمن معه وسار عنها إلى الري وأرسل إليه من الأموال والآلات ما يجل عن الوصف‏.‏

وأقام أبو العباس بجرجان هو وأصحابه وجمع العساكر وسار نحو خراسان فلم يصل إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين ثم وقع بها وباء شديد مات فيه كثير من أصحابه ثم مات هو أيضًا وكان موته سنة سبع وسبعين وقيل‏:‏ إنه مات مسمومًا‏.‏

وكان أصحابه قد أساؤوا السيرة مع أهل جرجان فلما مات ثار بهم أهلها ونهبوهم وجرت بينهم وقعة عظيمة أجلت عن هزيمة الجرجانية وقتل منهم خلق كثير وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم وطلب مشايخهم الأمان فكفوا عنهم وتفرق أصحابه فسار أكثرهم إلى خراسان واتصلوا بأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وكان حينئذ صاحب الجيش مكان أبيه وكان والده قد توفي فجأةً وهو يجامع بعض حظاياه فمات على صدرها فلما مات قام بالأمر بعد ابنه أبو علي واجتمع إخوته على طاعته منهم أخوه أبو القاسم وغيره فنازعه فائق الولاية وسنذكر ذلك سنة ثلاث وثمانين عند ملك الترك بخارى إن شاء الله تعالى‏.‏

 ذكر قتل أبي الفرج محمد بن عمران وملك أبي المعالي ابن أخيه الحسن في هذه السنة قتل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة وولي أبو المعالي ابن أخيه الحسن. وسبب قتله أن أبا الفرج قدم الجماعة الذين ساعدوه على قتل أخيه ووضع من حال مقدمي القواد فجمعهم المظفر بن علي الحاجب وهو أكبر قواد أبيه عمران وأخيه الحسن وحذرهم عاقبة أمرهم فاجتمعوا على قتل أبي الفرج فقتله المظفر وأجلس أبا المعالي مكانه وتولى تدبيره بنفسه وقتل كل من كان يخافه من القواد ولم يترك معه إلا من يثق به وكان أبو المعالي صغيرًا‏.‏ لما طالت أيام علي المظفر بن علي الحاجب وقوي أمره طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فوضع كتابًا عن لسان صمصام الدولة إليه يتضمن التعويل عليه في ولاية البطيحة وسلمه إلى ركابي غريب وأمره أن يأتيه إذا كان القواد والأجناد عنده ففعل ذلك وأتاه وعليه أثر الغبار وسلم إليه الكتاب فقبله وفتحه وقرأه بمحضر من الأجناد وأجاب بالسمع والطاعة وعزل أبا المعالي وجعله مع والدته وأجرى عليهما جراية ثم أخرجهما إلى واسط وكان يصلهما بما ينفقانه واستبد بالأمر وأحسن السيرة وعدل في الناس مدةً‏.‏ ثم إنه عهد إلى ابن أخته أبي الحسن علي بن نصر الملقب بمهذب الدولة وكان يلقب حينئذ بالأمير المختار وبعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر وهو ابن أخته الأخرى وانقرض بيت عمران بن شاهين وكذلك الدنيا دول وما أشبه حاله بحال باذٍ فإنه ملك وانتقل الملك إلى ابن أخته ممهد الدولة ابن مروان‏.‏

  ذكر عصيان محمد بن غانم

وفيها عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قم على فخر الدولة وأخذ بعض غلات السلطان وامتنع بحصن الهفتجان وجمع البرزيكاني إلى نفسه فسارت إليه فأرسل فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه ينكر ذلك عليه ويأمره بإصلاح الحال معه ففعل وراسله فاصطلحوا أول سنة أربع وسبعين وبقي إلى سنة خمس وسبعين فسار إلى جيش لفخر الدولة فقاتله فأصابته طعنة وأخذ أسيرًا فمات من طعنته‏.‏

  ذكر انتقال بعض صنهاجة من إفريقية إلى الأندلس وما فعلوه

في هذه السنة انتقل أولاد زيري بن مناد وهم زاوي وجلالة وماكسن إخوة بلكين إلى الأندلس‏.‏

وسبب ذلك أنهم وقع بينهم وبين أخيهم حماد حروب وقتال على بلاد بينهم فغلبهم حماد فتوجهوا إلى طنجة ومنها إلى قرطبة فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسر بهم وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم وسألهم عن سبب انتقالهم فأخبروه وقالوا له‏:‏ إنما اخترناك على غيرك وأحببنا أن نكون معك نجاهد في سبيل الله‏.‏

فاستحسن ذلك منهم ووعدهم ووصلهم فأقاموا أيامًا‏.‏

ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو فقال‏:‏ انظروا ما أردتم من الجند نعطكم فقالوا‏:‏ ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا وصنهاجة وموالينا فأعطاهم الخيل والسلاح والأموال وبعث معهم دليلًا وكان الطريق ضيقًا فأتوا أرض جليقية فدخلوها ليلًا وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره‏.‏

فلما أصبحوا خرج جماعة من البلد فضربوا عليهم وأخذوهم وقتلوهم جميعهم ورجعوا‏.‏

وتسامع العدو فركبوا في أثرهم فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من وراءهم وضربوا في ساقتهم وكبروا فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا أن العدد كثير فانهزموا وتبعهم صنهاجة فقتلوا خلقًا كثيرًا وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة فعظم ذلك عند ابن أبي عامر ورأى من شجاعتهم ما لم يره من جند الأندلس فأحسن إليهم وجعلهم بطانته‏.‏

  ذكر غزو ابن أبي عامر إلى الفرنج بالأندلس

لما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم ورغبوا في الجهاد وقالوا للمنصور بن أبي عامر‏:‏ لقد نشطنا هؤلاء للغزو‏.‏

فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار وخرج إلى الجهاد وكان رأى في منامه تلك الليالي كأن رجلًا أعطاه الأسبراج فأخذه من يده وأكل منه فعبره على ابن أبي جمعة فقال له‏:‏ اخرج إلى بلد إليون فإنك ستفتحها فقال‏:‏ من أين أخذت هذا فخرج إليها ونازلها وهي من أعظم مدائنهم واستمد أهلها الفرنج فأمدوهم بجيوش كثيرة واقتتلوا ليلًا ونهارًا فكثر القتل فيهم وصبرت صنهاجة صبرًا عظيمًا ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله فجال بين الصفوف وطلب البراز فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي فحمل كل واحد منهما على صاحبه فطعنه الفرنجي فمال عن الطعنة وضربه بالسف على عاتقه فأبان عاتقه فسقط الفرنجي إلى الأرض وحمل المسلمون على النصارى فانهزموا إلى بلادهم وقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة‏.‏

وغنم ابن أبي عامر غنيمة عظيمة لم ير مثلها واجتمع من السبي ثلاثون ألفًا وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض وأمر مؤذنًا أذن فوق القتلى المغرب وخرب مدينة قامونة ورجع سالمًا وهو وعساكره‏.‏